آليات ما بعد الدراما و حرية الاشتباك الجمالي و التقني

 يمكن أن يعد مسرح( ما بعد  الدراما ) شكلا من أشكال الاشتباك الحر مع الدراما ألتقليدية التي ضلت ضاربه بجذورها وسطوتها منذ أن عرف الطقس المسرحي  الأول وحتى زمننا هذا، حافرتاً  أخاديدها على أطلال التنظير المسرحي الذي لم ينفك بعض من المشتغلين فيه من محاولات الانفلات من تلك القواعد الصارمة، بالجنوح صوب أشكال مسرحيه تحاكي الحداثة لتنحت أحيانا اتجاهات ومشارب في ألمغايرة والتجريب ، الهدف منها تحقيق الموائمة   والتساوق مع روح العصر وثقافاته المتجددة … ولعل من معطيات هذا المسعى ظهور أشكال  اقترحها المعنيون بالهم المسرحي وثقافته الإنسانية ، فمنها  من تواصل مع ما هو تقليدي ومنها ما ا أختط نظرية جديدة في جماليات العرض في حين خرج البعض عن الأطر ألتقليدية المألوفة في المسرح المعاصر حتى عد بعض من هذه المساعي( فنا لا مسرحيا ) بسبب تشكلاتهِ وعناصره التي اختطت طريقها الخاص في صياغة شكل المنتج الإبداعي ، فظهرت أشكال مسرحيه ومسميات تمرد بعضها وأضاف الأخر  وأقصى بعضها  وابتكر الآخر،  ولعل من هذه المسميات مسرح (ما بعد الدراما) الذي نحاول تعرف بعض ملامحه وآليات اشتغاله من خلال ما كتب عنه من تنظير ومقاربات على مستوى العرض المسرحي . إذ لم يعرف المسرح  العربي هذا الشكل المسرحي عن قرب رغم ما كتب عنه عالميا ألا من خلال البعض القليل من الدراسات والمقالات ألمنشورة والتي ظهر البعض منها في كتاب ( مسرح ما بعد الدراما ) الذي تهيكل من مقاربات  نقدية لمجموعه من المؤلفين ، كان لهم الفضل في الاطلاع  على التنظير الأوربي لهذا المسرح و الترجمة عنه أو الكتابة فيه .
ولعل ابرز من عرف عربيا على حد علمنا في الاجتهاد بهذا الاتجاه إلى جوار الألمانية (كريستل فيلر)هم  (محمد سيف) من العراق (حسن المنيعي)و(خالد أمين) من المغرب بوصفهم من المهتمين والمشتغلين في هذا المنجز,  مستفيدين من اتصالهم الوثيق بالثقافة الفرنسية و مستجدات الثقافة الأوربية للمسرح، ومن المؤكد إن هناك أسماء أخرى قد تكون خارج دائرة اطلاعنا….
 
ويبدو إن ما يلفت الانتباه إلى هذا الشكل المسرحي (ما بعد الدرامي)انه قد  تميز في هيئته بالسعي للتخلص من المعايير الدرامية كشرط لوجود الحدث المسرحي من دون التخلي عن المفاهيم المتعلقة والمناسبة له كما يوصف ، بيد إن ما يلفت الانتباه في جميع الدراسات و التعريفات الإجرائية للمصطلح (ما بعد الدراما) قد دلت على انه لم يغادر بعيدا عن دائرة 
(ما بعد الحداثة)وتجارب المسرح الطليعي إذا لم يكن هو شكلا من إشكالها وعلى الرغم من أن مصطلح(ما بعد الدراما) هو مصطلحاً مسرحيا و أن مصطلح (ما بعد الحداثة) هو فكرياً وفلسفياً  ألا أن اتجاهات المسرح الطليعي  شكلت مقترباتها الفكرية والفلسفية في صياغة عروضها في ضوء فكر( ما بعد الحداثة)، ولعل ما يدلل على انتساب مسرح (ما بعد الدراما) الى هذه الدائرة, أن ميادينه التطبيقية قد التقطت عينات و تجارب مسرحية لمخرجين مسرحيين مثل (روبرت ويلسون) و(كلاوس كروبر) و(تاديوش كانتور) وغيرهم ممن تمحورت تشكلات تجاربهم في رحم التجربة الطليعية مسرح (ما بعد الحداثة)، و لما كان النص في ما يسمى بمسرح(ما بعد الحداثة) قد عمد إلى التمرد  على التراتبية وتشتيت البؤر و إقصاء المركز بالإزاحة و التمرد على الثوابت النصية ومرجعيتها ، وما إلى ذلك من آليات استند إليها هذا الخطاب ( الما بعد الدرامي ) المتمرد و المغادر للسطوة الأرسطية  التي فرضت هيمنتها على الخطاب المسرحي العالمي، دهورا و هي ترسخ الحكاية و البنية الحديثة و عناصر الصراع و مصير البطل ، و غيرها من قوانين كان قوامها قوانين (النظرية الأرسطية ) ، ولعل المتتبع التاريخي لهذا التمرد يرى انه بدأ منذ أول خروج على بنية النص ، أي منذ ( بريخت) و اجتهاده في تشكلات نصه الملحمي ، لا بل منذ(ماير هولد) في أول تعرض تصدى من خلاله إلى شكل العرض وأشتغل   على مجابهة الإيهام التقليدي ، في صورته  المسرحية كعرض جنح فيه إلى ألأسلبة و التمرد على هيئه وشكل العرض والذي  انسحب على أداء الممثل، وبالتالي استقطبت هذه الخصوصية اهتمام المنظرين و الملتقي المسرحي لتنتج موقفا (لاايهاميا) في العرض  يؤسس لقصدية اشتغال على آليات جديدة لذا, ومن اجل السعي إلى رصد آليات اشتغال تتناسب و المعطى الجديد (مسرح ما بعد الدراما) الذي هو بالتأكيد لا يلغي و إنما يضيف شكلاً حدا ثوياً معاصراً إلى الأشكال المسرحية السائدة التي ربما سبقته أو تزامنت معه إلى تحقيق هذه الإضافة، من خلال أشكال مسرحية أخرى مجاورة مثل (الكيريو كرافي) وغيرها في الفنون الأدائية التي عدتها بعض الدراسات إشكالاً (لا مسرحية) و أيضا لتمردها على القاعدة التقليدية للعرض وغيرها. 
        وعلى مستوى النص فأن بعضاً من الدراسات التي اشرنا أليها والتي عنيت ب(ما بعد الدراما) قد انتخبت نصوص (هاينر مللر) كأنموذج وصنفته في اتجاهين هما (ألما بعد درامية) و اتجاه أخر أسمته ب(الوسيطية)
و التي اجتهدت بوصف الاتجاهات في المسرح منذ بداية الستينات من القرن الماضي بوصفها بديل لجماليات المسرح التقليدي أو فنونه الأدائية التقليدية… بينما تمكن خصوصية هذه النصوص في( ما  بعد الدراما) في فرادتها في الاستخدام للعلامة المتحولة بنيويا في العرض المسرحي و باتجاهين احدهما يصبح فيه حضور العلامة تشاركياً و تفاعلياً مع مجموعة من التمثلات اللغوية و آخر تنتج فيه العلامة أكثر من دلاله عبر التواصلية التاريخية للتجربة المشتركة.
          ولعل هذا النوع من النصوص(ألما بعد درامية ) تتصدى إلى عملية أنتاج المعنى
لذا فهي في هيئتها العامة و في عروضها تعمل على إلغائها وتسعى إلى أن تهشم الحبكة و سريانها بوصفه نسيجاً بنائياً تقليدياً رابطاً, وكذلك الاحتفاء بما  كان يسمى ب (الثغرات) التي يملئها  الملتقي، بمعنى أن مسرح( ما بعد الدراما ) لا يعول على قابلية القراءة  وإمكانية الفهم بقدر  ما يركز على الفضاء العام للنص  مُغيباً فيه أي اثر للشخصية و تاريخها و إبعادها الدراماتيكية، و مغلباً على ذلك كله ، الأداء التمثيلي و تراكيبه الجمالية التي على المتفرج ان يلتقطها من فضاء العرض، الذي يعول فيه كثيراً على السينوغرافيا بوصفها (معادلاً بصرياً) جديداً يتعالق مع الأداء، و يجب على المتفرج أن يجتهد في صياغة عمق التعالق  بينها وبين الأداء  التمثيلي في فضاءٍ يتداخل فيه اشتغال التقنيات أيً كانَ نوعها للوصول إلى بُنى عميقة قابلة للتأويل في زمن إنتاج العرض، و هذا أيضاً متصل بالتجربة العملية و الإدراك الحسي للملتقي في احد إطرافه, و بهذا فأنَ هذه الدراسات في حدودها العامة تشير إلى التركيز بالتساوي على الفاعل و المتفاعل في هذا الشكل و الفضاء و اشتراكهما في الإدراك و ردود الأفعال الذاتية على حدٍ سواءْ،  لذلك وجدت أن قراءة الأداء تستدعي منهجاً ظاهراتياً أكثر منه سيميائياً لأتصال الأول بالتجربة العملية على أفق التوقع ،والتي تسند اليها (نظرية التلقي)،  ذاك لان المعنى في عرض (المسرح  ما بعد الدرامي ) هو في حالة تغيير مستمر و حيوية متجددة جعلت البعض يدعوه ب (مسرح الحالات) كونه لا يستهدف خلق عمل متماسك ، قابل للفهم، سهل التناول ، بل يسعى إلى تقنيات التشظي ، و التوحد ، و التزامن ،و كثافة العلامة الباثة لذا، فهو يطالب بعلاقة فعاله ونشيطة مع الجمهور الذي يجد فرصة لمعالجة الأحداث الآنية و تأويلها و فهمها خارج سياقها الثقافي أو الاعتماد على الموروث العالمي( ) إنها القراءة في لحظة التلقي أو ما يمكن أن نسميه ( بالتلقي الحر ) و الفعال الذي يشيد تراكيبه و يعيد إنتاجها أنياً على وفق معطيات التشتت أوما أسمته  الدراسات بالطابع (التشذري) للتركيب ، فهو كما يشير إليه (محمد سيف) في مداخلته مستفيداً من دراسته ل (هانز ليهمان)_ (ما بعد الدراما) يهدف إلى خلق تأثير لدى المشاهدين أكثر من التزامه بالنص حيث تختفي فيه الحبكة تماماً ويركز في أكثر إشكاله أو صوره على التفاعل بين الممثلين و الجمهور ، انه المسرح الذي لا يركز على الدراما بقدر تركيزه  على تطور الجماليات الأدائية التي من شأنها أن تقدم شكلاً فيه من المغايرة و العلاقة الخاصة بين النص و موقف الأداء المادي و خشبة المسرح ( )
وعليه فأننا نستشف من كل ما تقدم بان أهم آليات هذا المسرح، إن اختص بآليات فانه يستدعي الاجتهاد في خلق المعادلات الصورية المغايرة سواء كان من خلال الجسد آو ما يمتلكه في ثقافة جديدة و خاصة في هذا الأداء آو من خلال السينوغرافيا وما يمكن أن تحققها من ايحاءات  تشذرية أو طابع تشذري في التراكيب الجمالية التي تنبثق عن تعاضد جمالي يحققه (جسدالحركة)على المسرح في الزمان و المكان أن هذه الصورة الديناميكية المغايرة هي التي تمنح جسد الممثل بذاته أهميته و حضورهِ الفاعل في التشكيل البصري الخلاق الذي  يعتمد وجوده ذاتياً في خضم هذا التشكيل،  اذ يشير كتاب (مسرح ما بعد الدراما) إلى هذه الذاتية للجسد في حضوره (الجسد_الحركة ) بوصفه رافضاً لدوره كدال ،و يكتفي بتفعيل حضوره الذاتي الذي يجعل من الممثل سبباً ونتيجة في حضور فاعلية التلقي عند المتفرج .
مسرح(ما بعد الدراما) طقس يسعى الى تغيير المتفرج، و الفضاء فيه يتحول الى استمرار للواقع ،ولهذا فهو مسرح ملموس يعرض نفسه عبر الفضاء الزمن و الجسد ، هو اطار احتفالي لا مرجعية له ، كما إن العلامات المسرحية تبتعد فيه عن دلالاتها بحسب (هانز لهمان) فالوسائل المسرحية لا تخضع لأختبارات تراتبية ، بما في ذلك العلامات, وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال صياغات جديدة لدور الممثل بثقافة أدائية جديدة لأن أهم آليات هذا المسرح هي العمل على أبراز عناصر مسرحية محددة دون غيرها باستثمار الإمكانيات المتاحة التي يوفرها فضاء العرض من زمان و مكان و جسد و صوت، و ما يمكن إن ينبو عنهما من تعالق في ادائاتها لتشكيل الإيقاع العام الذي لا يهدف إلى تحقق شمولية التركيب الجمالي و إنما العمل على اضفاء (طابع تشذري) لهذا التركيب من شانه ان يتيح فرصة للمتلقي في اكتشاف عالم جديد من ناحية و فرصة  لمبدعي العرض في تأكيد الحضور لقدرات إبداعية متجددة ،كما انه يؤمن فرصاً واسعة لتطوير مكونات و عناصر المسرح باستثمارها بشكل جديد ومتطور في وسائله، ولعل ما أشار إليه مؤلفو كتاب (مسرح ما بعد الدراما) في مقارباتهم الأربعة ، يؤكد أجماعاً  على انه مسرح لا يهتم بالصراعات بقدر ما يعنى بوسائل التعبير عنها ، ذلك لان الزمن فيه هو مركز العرض ، مع انه مسرح لا يرتكز على مبدأ الحدث و الحكاية ، وإنما  يقدم موقفاً أو حالة 
يظل الفضاء فيه عنصراً فاعلاً وليس محايداً بعد إن تتعطل فيه الفعالية الحدثية للنص لتبرز هيمنة و اهمية السينوغرافيا .( )
كأنه مسرح (charisma) ، مسرح حضور لأن فضاء الأداء الذي ينشده هو فضاء حضور الممثل بذاته و فضاء السينوغرافيا هو الحضور ألتأثيري للإيحاء بالمكان، و حتى في علاقته مع البنية الدرامية و مرتكز ها الصراع فهو يشتغل على حضور الوسيلة و ليس الصراع بأقطابه المصطرعة فضلاً عن انتفاء عنصر الحدث و التراتبية فيه ، والحضور الشرطي للزمن بوصفه  فاعلاً في احتواء آليات ( ما بعد الدراما) . 
وعليه فأن محاولة ترسم شكلاً محدداً لآليات مسرح جديد مثل ( ما بعد الدراما) سيظل أمراً ترافقه بعض الصعوبات في الفرز على قدر أهمية الآمر ،اذ  يستدعي ذلك  فضاءاً للاشتباك بينه وبين بعض الأشكال الأخرى من أشكال ما بعد الحداثة  والنظر اليه بخصوصية كونه مسرح اسفر عن تمرده  على المعاير الدرامية ويتسم بالسعي للتخلص منها كشرط لوجود الحدث المسرحي الذي ظل مهيمناً ومن دونما سعى للتخلي عن المفاهيم والمتعلقات المسرحية المتصلة به .. وهذا لا يمكن تحقيقه تماماً إلا بالاكتفاء بعده شكلاً من إشكال المسرح (ألما بعد الحداثي ) الذي يسعى الى الانفراد بموقف جمالي في العرض المسرحي يتمركز في موضوعة الفضاء الحضوري التشذري للتركيب المسرحي عموماً و في مقدمتها  :    
_ اشتغاله على الآليات الأدائية التي يمكن أن تمنحه خصوصية و بالتالي تعالق هذه الآليات و اشتغالها مع آليات أداء الممثل ،كما انه مسرح للاشتغال على آليات التلقي ،و يطمح أن يفعلها في المشاركة الآنية لمعطيات العرض الجديد مع عملية القراءة و التلقي  و مشتبكاً معها بموجهات يفرضها الحضور الجديد لفرضية العرض في مسرح(ما بعد الدراما) ، وعليه فأن رصيد آليات مسرح (ما بعد الدراما ) لا يخلو من اشتباكات فنية و تقنية تستدعي وقفات تفصيلية عند الدراما وبنيتها المتجذرة و مسرح ما بعد الحداثة وجميع تطورات الفنون الأدائية المعاصرة. 

———————————————————————————
المصدر : مجلة الفنون المسرحية -أ. د .يوسف رشيد-  كلية الفنون الجميلة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *